منهج عائشة رضي الله عنها في التعليم
كان للسيدة عائشةَ رضي الله عنها مكانتها المرموقة بين الصحابة و التابعين ، و كانت مرجعًا لهم ليتلقَّوا منها علومهم ، و يسألوها عما أشكَل عليهم ، فتبثُّ عليهم الأحاديث النبوية ، و تشرح لهم الآياتِ القرآنية ، و تبيِّن لهم الأحكام الفقهية ، و قد تميزت مدرستها و منهجها في التعليم بعدة مزايا :
♦ أولاً : التأني و عدم الإسراع :
فعن عروة أن عائشة رضي الله عنها قالت مستنكرةً : ألا يُعجبكَ أبو هريرة ؛ جاء فجلس إلى جانب حجرتي يحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم يُسمِعني ذلك ، و كنت أسبِّح ، فقام قبل أن أقضي سُبحَتي ! و لو أدركتُه لرددتُ عليه ؛ إنّ رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يكن يَسرُد الحديث كسَردِكم . البخاري (3375) و مسلم (3493) و أبو داود (3655)
و معنى " أسبِّح " أي : أصلِّي .
♦ ثانيًا : التعليم بالأسلوب العمَلي :
و ذلك زيادةً في توضيح الأحكام ؛ و ذلك كتعليمها الوضوءَ لمن سألها عنه .
عن أبي سلمة قال : دخلتُ أنا و أخو عائشة على عائشة ، فسألها أخوها عن غُسل النبي صلى الله عليه و سلم فدعَت بإناء ، نحوًا من صاع ، فاغتسلَت و أفاضت على رأسها ، و بيننا و بينها حجاب .
أي : أبو سلمة عبدالله بن عبدالرحمن بن عوف ، و هو ابنُ أختها من الرضاع ، أرضعَته أمُّ كلثوم بنت أبي بكر رضي الله عنهم .
" أخو عائشة " : قيل : هو عبدالرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما ، و قيل : هو عبدالله بن يزيد أخوها من الرضاع .
" عن غُسل " : كيفيَّته و مقدار ما يَغتسل به .
" نحوًا من صاع " : قريبًا من الصاع ، يَزيد قليلاً أو يَنقص .
" حجاب " : أي يَحجب عنَّا ما يَحرم رؤيته علينا .
♦ ثالثًا : إيراد الدليل :
و يتَّضح ذلك في هذه الرواية ؛ فعن مسروقٍ قال : كنتُ متكئًا عند عائشة ، فقالت : يا أبا عائشة ، ثلاثٌ مَن تكلَّم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفِرية ، قلتُ : و ما هن ؟
قالت : مَن زعم أن محمدًا صلى الله عليه و سلم رأى ربَّه فقد أعظم على الله الفرية .
قال : و كنتُ متكئًا فجلستُ ، فقلتُ: يا أم المؤمنين، أنظِريني ولا تعجليني ، ألم يقل الله عز وجل : ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ ﴾ [التكوير: 22] ، ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ﴾ [النجم: 13] ؟!
فقالت : أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقال : " إنّما هو جبريل ، لم أره على صورتِه التي خُلق عليها غير هاتين المرَّتين ، رأيتُه منهبطًا من السماء ، سادًّا عِظَمُ خَلْقه ما بين السماء و الأرض " .
فقالت : أولم تسمع أن الله يقول : ﴿ لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 103] ؟!
أو لم تسمع أن الله يقول : ﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾ [الشورى: 51] ؟!
قالت : و مَن زعم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كتم شيئًا من كتاب الله فقد أعظمَ على الله الفرية ، و الله يقول : ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾ [المائدة: 67].
قالت : و من زعم أنه يُخبِر بما يكون في غدٍ فقد أعظم على الله الفرية ، و الله يقول : ﴿ قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ ﴾ [النمل: 65] . مسلم (177)
و معنى " أعظمَ على الله الفريةَ " : هي الكذب ، يُقال : فرى الشيء إذا اختَلقَه .
" أنظريني " : من الإنظار ، و هو التأخير و الإمهال .
و بذلك يتَّضح لنا أنَّ السيدة عائشة رضي الله عنها كانت معقلاً للفكر الإسلامي ، و سراجًا يضيء على طلاب العلم ، و لذكائها و حبِّها للعلم ؛ كان النبيُّ صلى الله عليه و سلم يحبها و يؤثِرُها ؛ حيث قال : " وإن فضل عائشة على سائر النساء كفضل الثَّريد على سائر الطعام " .